فِي وَاحَةِ الصَّبَّارِ…. وَصَمْتِ الانْتِظَار
بقلم الدكتور/ عماد الدين حسين – مستشار التميز المؤسسي والتدريب
تَسْأَلُنِي: مَنْ أَنْتَ؟ كَيْفَ أَنْتَ؟ لِمَ أَنْتَ أَنْتَ؟
أَقُولُُ: أَنَا لَمْ أَعُدْ مَا كُنْتُ عَلَيْهِ…
تَسْأَلُنِي: مَا الخَطْبُ؟
أَقُولُُ: خَطْبٌ جَلَلٌ صَدِيقِي… الانْتِظَارُ…. مَا أَقْسَاهُ… مَوْتٌ وَحَيَاةٌ مُتَّحِدَيْنِ.
تَسْأَلُنِي: أَيُّ انْتِظَارٍ؟؟ حَدِّثْنِي عن الانْتِظَارِ؟!
أَقُولُُ: صَحْرَاءُ جَرْدَاءُ… لا زُرُوعَ أيْنَعَتْ وَلا مَاءَ… تُنَادِي يَرْتَدُّ إِلَيْكَ الصَّوْتُ… أَنْتَ وَالصَّدَى مَعِيَّةٌ
وَاحِدَةٌ.
تَسْأَلُنِي: وَلِمَ الانْتِظَارْ؟
أَقُولُُ: قَدْ تَستَجِيرُ منَ النَّارِ بالرَّمْضَاءِ خَيْرًا مِنَ الانْتِظَارِ؟؟
تَسْأَلُنِي: أَيُّ نَارٍ.. وَأَيُّ رَمْضَاءَ… عَجَزْتُ عَنْ فَكِّ حُرُوفِكَ… وَشَفَرَاتِ آهَاتِكَ… وَمَواطِنِ أَلَمِكَ… وَمَوَاجِعِ
ذَاتِكَ.. أَخْبِرْنِي.
أَقُولُُ: حِينَمَا يَمْضِي قِطَارُ العُمْرِ… وَسْطَ حُقُولِ الصَّبَّارِ… مَاذَا تَنْتَظِرُ فِيمَا تَبَقَّى مِنَ الرِّحْلَةِ… أَهِيَ زُرُوعٌ
وَثِمَارٌ؟ أَهِيَ رَيَاحِينُ وَأَمْطَارٌ؟…. يَا صَدِيقِي ارْتَمَيْنَا فِي أَحْضَانِ الْوَهْمِ… فَصَحَوْنَا ذَاتَ صَبَاحٍ… فَلَمْ
نَجِدْ سِوَى وَاحَاتِ الصَّبَّارِ…. مَرَارَاتٌ تِلْوَ مَرَارَاتٍ…. يَمْضِي الصَّيْفُ تِلْوَ الصَّيْفِ… وَيَأْتِي الشِّتَاءُ…
وَنَنْتَظِرُ أَمْطَارَ السَّمَاءِ.. ويَطُولُ الانْتِظَارُ… وَيَبْقَى الانْتِظَارُ… وَنَعِيشُ الانْتِظَارَ… وَيَأْخُذُنَا الانْتِظَارُ..
نَلتَحِفُ بِهِ أَحْيَانَا.. وَلَكِنَّهُ الْتِحَافُ العَرَاءِ…. وَآهٍ مِنْ آلامِ الانْتِظَارِ… مَاذَا أَقُولُ صَدِيقِي.. طُوبَى
لِلمُنْتَظِرِينَ عَلَى أَبْوَابِ الرَّجَاءِ… طُوبَى لِمَنْ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَتَوَحَّدُوا مَعَ الانْتِظَارِ…. طُوبَى
للنَّاظِرِينَ وَالمنْتَظِرِينَ..
تَسْأَلُنِي: أَيْنَ حُرَِّيُّتكَ… اجْعَلْ ثَوْرَتَكَ مَطِيََّتكَ… حَطِّمْ قُيُودَكَ أَيَُّها الأَسِيرُ فِي زَمَنِ الانْتِظَارِ… فَعَلَهَا قَبْلَكَ كَثِيرُونَ
وَسَيَفْعَلُهَا بَعْدَكَ مَنْ لا يُحْصَوْنَ وَلا يُعَدَُّون… هَلْ تَفْتَقِدُ الشََّجاعَةَ وَالإِقْدَامَ لأَنََّك فِي حُقُولِ الصََّبِّار؟….
هَلْ أَقْعَدَتْكَ سَنَوَاتُ الانْتِظَارِ وَحَوََّلتْكَ إِلَى كَهْلٍ يَحْيَا مُتَأَمًِّلا فِي دُنْيَا الوَهْمِ وَالخِذْلانِ وَاجْتِرَارِ
الأحْزَانِ؟.. أُعَاتِبُكَ صَدِيقِي… بَلْ أُعَاتِبُ فِيكَ عَهْدِي بِكَ وَأُعَاتِبُ فِيكَ عُمْرِي.. وَأُعَاتِبُ فِيكَ وَهَنَ عَزْمِكَ
وَقِلََّة حِيلَتِكَ وَهَوَانَكَ عَلَى ذَاتِكَ… أَيْنَ جَسَارَتُكَ يَا مَنْ كُنْتَ فَارِسَ الطُُّموحَاتِ… وَالْحَالِمَ بِالْمَجْدِ
وَالهَامَاتِ… أَلَمْ تَقُصَّ لِيَ الرَِّوايَاتِ بأَنَّ ذَاتَكَ هِيَ مَلاذُكَ وَحِصْنُكَ وَعَلَيْكَ أَنْ تَجْعَلَهُ قَوِيًّا مَنِيعًا وَسَدًّا
حَصِينًا؟.. أَلَمْ تَقُصَّ عَلَيَّ قَصَصَ الفُتُوحَاتِ وَالنََّجاحَاتِ وَالرَِّيادَاتِ.. هَلْ نَسِيتَ حُلْمَكَ الْوَرْدِيَّ.. أَلَمْ
تُذَكِّرْنِي دَوْمًا بِأَنََّك الْحُلْمُ وَأَنََّك لَدَيْكَ حُلْمٌ وَأَنَّ كَلِمَاتِ مَارْتِنْ لُوثَرْ كِينْجْ يَتَرَدَُّد صَدَاهَا بَيْنَ جَنَبَاتِكَ فِي كُلِّ
حِينٍ… لَدَيَّ حُلْمٌ… أَلَمْ تُعَلِّمْنِي يَوْمًا أَدَبِيَِّات الثَّوْرِيَِّات دُونَ الثَّأْرِيَِّات؟.. لَمْ أَعْهَدْكَ يَوْمًا هَكَذَا… مَاذَا دَهَاكَ
صَدِيقِي؟ أُعَاتِبُكَ عِتَابَ الْمُحِبِّ لِمَنْ أَحَبَّ.. وَالصَُّدوقِ لِمَنْ صَدَقَ.. وَالْوَفِيِّ لِمَنْ أَوْفَى… إِنْ لَمْ تَثْأَرْ لِذَاتِكَ
وَتَنْتَفِضْ لِحَيَاتِكَ وَتَخْرُجْ مِنْ شَرْنَقَتِكَ فَهَلْ تَنْتَظِرُ مَمَاتَكَ كَمَدًا وَأَلَمًا؟
أَقُولُُ: الانْتِظَارُ مُسَامَرَةُ الْغَائِبِ لِلْغَائِبِ…. الانْتِظَارُ فِعْلُ حَائِرٍ مُتَرَدٍِّد يَقِفُ وَحِيدًا حَائِرًا فِي صَحْرَاءِ التِِّيه…
الانْتِظَارُ هُوَ الْحَنِينُ لِلْغَائِبِ الحَاضِرِ…. الانْتِظَارُ هُوَ الْوُقُوفُ بِلا مِظَلٍَّة وَبِلا قُبََّعةٍ وَبِلا هَدَفٍ وَبِلا
بُوصَلَةٍ فِي صُفُوفِ الصَِّامتِينَ… الانْتِظَارُ تَرَقٌُّب وَخِيفَةٌ وَتَأَمٌُّل وَرَجَاءٌ…. إِنَُّه الْحَنِينُ إِلَى الْمَطَرِ… إِلَى
الرُّفْقَةِ الآنِسَةِ النَِّقيَِّة الوَفِيَِّة… إِلَى الشَِّاطئِ الآمِنِ… إِلَى الأَنْقِيَاءِ فِي زَمَنِ الشُِّحّ… إِلَى الأَوْفِيَاءِ فِي زَمَنِ
الْهَوَانِ… إِنَُّه الْعُثُورُ عَلَى مَوَاجِعِكَ وَآهَاتِكَ الدَِّفينَةِ وَذَاكِرَتِكَ الْمَنْسِيَِّة وَهُوِيَِّتكَ وَمَلامِحِكَ فِي أَحْضَانٍ
دَافِئَةٍ…. إِنَُّه الافْتِقَادُ صَدِيقِي…. وَآهٍ مِنَ الافْتِقَادِ…. وَلِهَذَا أَنَا هُنَا!
تَسْأَلُنِي: حَقًّا؟… وَلِمَاذَا أَنْتَ هُنَا؟ وَلَسْتَ هُنَاكَ؟
أَقُولُُ: أَنَا هُنَا لأَنِّي وَجَدْتُ نَفْسِي وَحِيدًا عَلَى ضَفَّةِ النَّهْرِ… أَسِيرًا عَلَى ضَفَّةِ النَّهْرِ… أُغَازِلُ قَطَرَاتِ النَّهْرِ…
صَدِيقِي…. أَنَا لَمْ أَخْتَرْ أَنْ أَكُونَ هُنَا…. لَمْ أَخْتَرِ الْمَنَافِيَ…. لَمْ أَخْتَرِ الْغِيَابَ… لَمْ أَخْتَرْ حَتَّى الذَّهَابَ…
صَدِيقِي.. لَمْ أَخْتَرْ أَنْ أُخَبِّئَ الدَّمْعَ تَحْتَ سَطْحِ الْكَلِمَاتِ… لَمْ أَخْتَرْ أَنْ أَكُونَ مُقِيمًا فِي سِجْنٍ
حَسَنِ السُّمْعَةِ.
صَدِيقِي… لَمْ أَخْتَرِ السَّجَّادَةَ الْحَمْرَاءَ… وَلاَ الوِسَادَةَ.. وَلا الْمَجْدَ.. وَلا الْبُطُولَةَ… لَمْ أَخْتَرِ الزَّمَانَ
وَلا الْمَكَانَ..
صَدِيقِي.. لَمْ أَخْتَرْ أَنْ أَحْيَا بَيْنَ حَضْرَةِ الْحَيْرَةِ… وَحَضْرَةِ الْغِيَابِ… وَحَضْرَةِ الْحُزْنِ الدَّفِينِ
وَحَضْرَةِ الانْتِظَارِ.
تَسْأَلُنِي: لِمَاذَا ذَاكِرَتُكَ مُجْهَدَةٌ..؟ لِمَاذَا أَنْفَاسُكَ لاهِثَةٌ؟ لِمَاذَا جَسَدُكَ وَاهِنٌ؟ لِمَاذَا هَذَا الانْكِسَارُ؟
أَقُولُُ: لا تَسْأَلْنِي… يَا صَدِيقِي… تَرْحَالٌ تِلْوَ تَرْحَالٍ… بِالأَمْسِ كُنْتُ… وَالْيَوْمَ أَصْبَحْتُ… وَغَدًا تَرْحَالٌ جَدِيدٌ…
فِي طُفُولَتِي كَانَ الْحُلْمُ وَكَانَتِ البَرَاءَةُ… كَانَتِ السَّمَاءُ صَافِيَةً حَقًّا… وَالطُّيُورُ مُغَرِّدَةٌ.. وَالأَشْجَارُ مُثْمِرَةٌ
حَقًّا.. والزُّرُوعُ وَارِفَةٌ حَقًّا… وَالْحَقُّ كَانَ حَقًّا.. الْيَوْمَ أَلْبَسُوهُ لِبَاسَ الزَّيْفِ .. لَمْ تَرَ عَيْنَايَ سِوَى
الأَنْقِيَاءِ… لَمْ تَسْمَعْ أُذُنَايَ سِوَى تَرَانِيمِ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ. كَمْ مِنْ أَيَادٍ بَيْضَاءَ لامَسَتْ… كَمْ مِنْ قُلُوبٍ
مِعْطَاءَةٍ مُحِبَّةٍ عَاشَرَتْ وَاقْتَرَبَتْ… عِشْتُ فِي أَكْنَافِ عَظَمَةِ إِنْسَانٍ.. وَحُلْمِ إِنْسَانٍ… وَبَنِي بَشَرٍ… فَلَمَّا
كَبِرْتُ.. أَدْرَكْتُ أَنَّنِي أَسِيرٌ فِي مَعِيَّةِ عَدْلٍ شَرِيدٍ… وَأَحْيَا بَيْنَ أَكَلَةِ لُحُومِ الْبَشَرِ وَفِي الصُّفُوفِ الأُولَى
سَاجِدِينَ مُكَبِّرِينَ وَفِي سِبَاقِ العُمْرَةِ والحَجِّ يَصْطَفُّونَ مُهَلِّلِينَ مُكَبِّرِينَ…. بَيْنَمَا قُلُوبُهُمْ صَنَعَتْهَا حِجَارَةُ
زَمَنِ الشُّحِّ وَالْهَوَانِ.. وَقِيَمُهُمْ مَصْنُوعَةٌ فِي مَصَانِعِ الْمَنْفَعَةِ وَالأَنَانِيَةِ وَالْحِقْدِ الدَّفِينِ… وَآنَذَاكَ… أَسَرَنِي
طَائِرُ الْكَآبَةِ… فَأَصْبَحْتُ أَنَا السَّمَاوِيَّ الطَّرِيدَ…. أَنَا الْمُغَرِّدَ الْوَحِيدَ… أَنَا الْمُنَادِي وَأَنَا الصَّدَى…. أَنَا
الْمَجْرُوحَ وَأَنَا الْمُدَاوِي.. أَنَا الحَاضِرَ وَأَنَا الغَائِبَ.. أَنَا الخَصْمَ وَالحَكَمَ… مَا أَقْسَاهَا مِنْ ثُنَائِيَّةٍ… وَرَغْمَ
أَحْزَانِي لا زِلْتُ أَسْعَى أَنْ أَكُونَ طَائِرًا حُرًّا طَلِيقًا.. أَسْعَى أَنْ أَكُونَ رِسَالَةً… وَرَغْمَ أَوْجَاعِي لا زِلْتُ
أَشْعُرُ بِأَنَّ الرِّحْلَةَ لَمْ تَبْدَأْ بَعْدُ… وَأَنَّ الدَّرْبَ لَمْ يَنْتَهِ بَعْدُ… وَأَنَّ الْحُلْمَ لَمْ يَكْتَمِلْ بَعْدُ… وَأَنَّ الْعِشْقَ لَمْ
يَتَوَحَّدْ بَعْدُ… وَأَنَّ الْوَعْدَ لَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدُ… وَأَنَّ الْمُلْتَقَى لَمْ يَأْتِ بَعْدُ… وَأَنَّ المِيعَادَ لَمْ يَتَحَدَّدْ بَعْدُ…… لأَنَّنِي
تَعَلَّمْتُ الْحِكْمَةَ مِنَ الْغُرَبَاءِ… فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ فِي وَاحَاتِ الانْتِظَارِ.
تَسْأَلُنِي: كُلُّ هَذَا الانْكِسَارِ؟… أَلَمْ تَقُلْ أَنَّكَ طَائِرٌ سَمَاوِيٌّ؟… لِمَاذَا لَمْ يَكْتَمِلْ حُلْمُكَ؟ أَكَادُ أُجَنُّ مِنْ طَلاسِمِ أَلَمِكَ!
أَقُولُُ: الانْكِسَارُ بَاتَ مَعِيَّتِي وَأَنَا حَبِيسُهُ وَهُوَ حَابِسِي لأَنَّ دَائِي عُضَالٌ… وَالطَّرِيقُ إِلَى السَّمَاءِ طَوِيلٌ طَوِيلٌ…
الانْكِسَارُ يَا صَدِيقِي يَجْعَلُكَ فِي حَيْرَةٍ دَائِمَةٍ.. أَنْتَ مَيِّتٌ حَيٌّ.. لا تَعْلَمُ أَأَنْتَ الْوَلِيدُ أَمِ الْفَقِيدُ..؟ فِي الانْكِسَارِ
صَدِيقِي لَيْسَ مُهِمًّا أَنْ تَقِفَ عَلَى أَعْتَابِ النِّهَايَةِ أَمْ بِدَايَةِ النِّهَايَةِ… فِي الانْكِسَارِ.. جُسُورُ حَيَاتِكَ مُعَلَّقَةٌ فَلا
أَرْضَ هَبَطْتَ وَلا سَمَاءَ وَصَلْتَ…. كُلُّ المُنْكَسِرِينَ مُجْتَمِعُونَ فى سَفَرِ الآلامِ وَسَفَرِ الافْتِقَادِ وَسَفَرِ
الْغِيَابِ وَسَفَرِ الآهَاتِ… فِي الانْكِسَارِ صَدِيقِي أَنْتَ لا تَمْلِكُ مَا تَمْلِكُ لأَنَّكَ لا تَمْلِكُ أَنْ تَمْلِكَ…
تَسْأَلُنِي: وَمَاذَا بَعْدُ؟
أَقُولُُ: يَجِبُ أَنْ أَمْضِيَ فِي رِحْلَتِي إِلَى مُنْتَهَاهَا… ثَائِرًا حَتَّى النَُّخاعِ… شَاهِرًا سَيْفِي فِي وَجْهِ جَلاَِّدي وَسَجَِّاني..
فِي وَجْهِ أَبَاطِرَةِ الظُّلْمِ وَصُنَِّاع الْغَبْنِ مِنْ مَهَرَةِ زَمَنِ الافْتِقَادِ… رَغْمَ وَهَنِي وَرَغْمَ هَوَانِي.. وَلَكِنْ مَنْ
يَدْرِي يَا صَدِيقِي قَدْ أَعْبُرُ النَّهْرَ بِمُفْرَدِي…. وَقَدْ يُجَاوِرُنِي فِي الْعُبُورِ حَكِيمٌ أَوْ أَدِيبٌ أَوْ أَنِيسٌ أَفْتَقِدُهُ… لَمْ
أَعُدْ أَخَافُ الْغَدَ.. فَأَنَا لَمْ أَعِشِ الْيَوْمَ.. لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ زَائِلٌ.. اسْمِي زَائِلٌ.. جَسَدِي زَائِلٌ… أَوْسِمَتِي
زَائِلَةٌ… نَيَاشِينِي زَائِلَةٌ… ذَاكِرَتِي زَائِلَةٌ… عُنْوَانِي زَائِلٌ.. هُوِيَِّتي زَائِلَةٌ.. مَلامِحِي زَائِلَةٌ… صَوْمَعَتِي
زَائِلَةٌ.. مَكْتَبَتِي زَائِلَةٌ… آهَاتِي زَائِلَةٌ.. طُمُوحَاتِي زَائِلَةٌ.. دُكَِّاني زَائِلٌ.. قِرْطَاسِي زَائِلٌ… حَتَّى عُمْرِي…
وَصَمْتِي وَطُولِ انْتِظَارِي وَانْكِسَارِي فِي الانْتِظَارِ زَائِلٌ…. وَلْتَنْظُرْ مَعِي صَدِيقِي إِلَى الأَنْهَارِ كَيْفَ
الْتَهَمَتْهَا الْبِحَارُ… وَلْتَنْظُرْ مَعِي صَدِيقِي إِلَى الأَشْجَارِ كَيْفَ احْتَوَتْهَا سَنَوَاتُ الْعِجَافِ وَسَقَطَتْ أَوْرَاقُهَا
عَلَى الأَرْضِ لِتَتَحَوََّل إِلَى هَشِيمٍ وَرَمَادٍ… وَلْتَنْظُرْ مَعِي يَا صَدِيقِي إِلَى الْعَنَاوِينِ الَِّتي أَضْحَتْ بِلا
عَنَاوِينَ… فَالْكُلُّ إِلَى زَوَالٍ فِي مَمْلَكَةِ الأَنَامِ… كِتَابٌ مَعْلُومُ الصََّفحَاتِ… كُلَُّنا زَائِلُونَ وَلا يَبْقَى سِوَى
وَجْهِ رَبِّ الْعِبَادِ… وَلِهَذَا سَأَمْضِي فِي رِحْلَتِي إِلَى مُنْتَهَاهَا….
تَسْأَلُنِي: مَنْ أَنْتَ إِذَنْ؟
أَقُولُُ: أَنَا لَسْتُ أَنَا… أَنَا لَسْتُ هُوَ… أَنَا لسْتُ كِلاهُمَا… أنَا مَزِيجٌ مِنْهُمَا.
تَسْأَلُنِي: أَهِيَ طَلاسِمُ آلامِكَ أمْ مَعْلُومُ تِبْيَانِكَ أَمْ فِقْهُ زَوَالِكَ؟
أَقُولُُ: كَيْ لا أَشُقَّ عَلَيْكَ.. وأُكَلِّفُكَ مَا لَمْ تَسْتَطِع…
أَنَا مَشْرُوعٌ سَمَاوِيُّ التَّكْوِينِ… أرْضِيُّ البِنَاءِ..
أَنَا مَخَاضٌ لَمْ يَرَ النُّورَ بَعْدُ… مَشْرُوعُ اغْتِيَالٍ مُبَكِّرٍ.
أَنَا نِهَايَاتٌ تَبْحَثُ عَنْ بِدَايَاتٍ…
أَنَا ضَمِيرٌ أصَابَتْهُ نِيرَانٌ صَدِيقَةٌ..
أَنَا خَلايَا نَائِمَةٌ فِي جَسَدٍ ثَائِرٍ جَرِيحٍ.
أنَا مَشْرُوعُ الأمَانِي الحَبِيسَةِ فِي سَفَرِ الافْتِقَادِ.
أنا السَّفَرُ الطَّوِيلُ القَصِيرُ فِي دُرُوبِ الثَّائِرِينَ.
أنَا الأَنِينُ والحُزْنُ الدَّفِينُ.
أَنَا مِنْ بَقَايَا الزَّمَنِ الجَمِيلِ.
أَنَا آخِرُ حَبَّةٍ فِي عَقْدِ الحُلْمِ الأَصِيلِ.
أَنَا الطُّمُوحُ والطَّامِحِينَ فِي دَرْبِ العَاشِقِينَ.
أَنَا الغَدُ الجَرِيحُ مُغْمَدٌ فِي ظَهْرِهِ خِنْجَرُ الأَمْسِ.
أَنَا المُسَافِرُ.. العَائِدُ.. الذَّاهِبُ.. الْمُرْتَقَبُ.. الْمُنْتَظَرُ.
أَنَا الهِمَّةُ والغُمَّةُ والكَرْبُ والْيُسْرُ بَعْدَ العُسْرِ.
أَنَا الطَّائِرُ الْمُحَلِّقُ بجَنَاحَيْهِ فِي مَمْلَكَةِ الأَفَاعِي.
أَنَا العَازِفُ عَلَى وَتَرِيَّاتِ الكِفَاحِ فِي رَحِمِ القَدَرِيَّاتِ.
أَنَا حُسْنُ طَالِعٍ وحُسْنُ مَقَامٍ وحُسْنُ مَآبٍ.. وَحُسْنُ تَرَصُّدٍ وافْتِرَاسٍ.
أَنَا الْمُهَاجِرُ.. الْمَلاَّحُ العَتِيقُ… الزَّاهِدُ… الشَّرِيدُ….الصِّنْدِيدُ
أَنَا الخَصْمُ العَنِيدُ… والمُصَارِعُ… الوَاقِفُ علَى بَابِ الرَّجَاءِ
أَنَا الثَّائِرُ.. الحَائِرُ… البَاكِي… الجَرِيحُ
تَسْأَلُنِي: إِذَنْ مَنْ تَكُونُ؟ أَكَادُ أُجَنُّ مِنْ مُفْرَدَاتِ بَيَانِكَ؟ أَبْكَيْتَنِي أيَُّها الْمَلاَُّح العَتِيقُ.
أَقُولُُ: يَا صَدِيقِي أَلَمْ أَقُلْ لَكَ..
أَنَا لَسْتُ أَنَا
أَنَا لَسْتُ هُوَ
أَنَا لَسْتُ كِلاهُمَا
أَنَا مَزِيجٌ مِنْهُمَا
…..
فَهَلْ أَدْرَكْتَ صَدِيقِي مَنْ أَكُونُ؟
تَسْأَلُنِي: إِذَنْ مَنْ تَكُونُ أَنْتَ؟ أَوْجَعْتَنِي…. لَيْتَنِي لَمْ أَسْأَلْكَ؟ أَرِحْنِي يَا فَارِسَ الانْتِظَارِ… وَأَمِيرَ الصَّمْتِ وَمَلِكَ
الانْكِسَارِ!!
أَقُولُُ: لَمْ أَعُدْ أَدْرِي صَدِيقِي مَنْ أَنَا.. قَدْ أَكُونُ حُلْمًا اغْتَالُوهُ… قَدْ أَكُونُ أَسِيرًا أَوْثَقُوهُ…. لَمْ أَعُدْ أَدْرِي مَنْ أَنَا…
أَأَنَا الطَّلِيقُ أَمِ الأَسِيرُ.. أَأَنْتَ الْحَاضِرُ أَمْ أَنَا الْغَائِبُ… أَأَنَا الصَّامِتُ أَمِ الثَّائِرُ…. مَلامِحُ هُوِيَّتِي طُمِسَتْ
لَمْ أَعُدْ أَدْرِي صَدِيقِي… أَأَنَا الصَّبَّارُ وَالرَّمْلُ وَالظُّلُمَاتُ… أَمْ أَنَا الأَمَلُ وَالْيَاسَمِينُ وَالرَّيْحَانُ الْوَلِيدُ؟؟
لَمْ أَعُدْ أَدْرِي صَدِيقِي ..أَأَنَا التَّرْحَالُ وَالسَّفَرُ الطَّوِيلُ.. أَمِ الْغِيَابُ بِلا إِيَابٍ… أَأَنَا لَسْتُ أَنَا أَمْ أَنَا لَسْتُ لِي؟
تَسْأَلُنِي: أَبْكَيْتَنِي صَدِيقِي وَأَجْرَيْتَ دَمْعِي مِنْ مَآقِيهِ… لَمْ أَعْلَمْ بَعْدُ مَاذَا بَعْدُ؟
أَقُولُُ: أَتْعَبَنِي الْغِيَابُ… دَعْنِي أَمْضِي فِي صَمْتٍ…. جِئْتُ مَعَ الرِِّيح وَسَأَذْهَبُ مَعَ الرِِّيح وَأَسْفَارِي وَسْطَ الرِِّيح.
يَا صَدِيقِي لَنْ أَكُونَ أَنَا مَرََّتيْنِ… بِالأَمْسِ لَمْ أَكُنْ (أَنَا) . وَالْيَوْمَ أَصْبَحْتُ (أَنَا) وَلا أَعْلَمُ عَنِ الْغَدِ
مَنْ (أَنَا).
تَسْأَلُنِي: وَمَاذَا قَبْلَ الرَِّحيلِ؟
أَقُولُُ: سَأَذْهَبُ إِلَى الْيَنَابِيعِ…. سَأَنْثُرُ وَرْدًا وَرَيَاحِينَ… سَأُطَارِدُ حُزْنِيَ الدَِّفينَ.. سَأَكُونُ أَنَا آسِرَهُ وَلَسْتُ
أَنَا أَسِيرَهُ.
سَأَبْحَثُ فِي الْمَدِينَةِ عَنِ الْحَيَارَى وَالْمَكْلُومِينَ وَالْمَجْرُوحِينَ وَعَابِرِي السَِّبيلِ… سَأَحْتَضِنُهُمْ
لأُبَدَِّد أَحْزَانَهُمْ… سَأُضَمُِّد جِرَاحَهُمْ… سَأَنْثُرُ بُذُورَ الأَمَلِ… لأَقْطِفَ ثِمَارَ الْعَمَلِ… سَأَضَعُ قُبْلَةً طَاهِرَةً
نَقِيًَّة عَلَى جَبِينِ يَتَامَى الطَِّريقِ وَالْمَفْقُودِينَ فِي بُطُونِ دُرُوبِ الانْتِظَارِ… سَأَقِفُ عَلَى الْمَآذِنِ وَالْمَنَابِرِ
مُنَادِيًا بِصَوْتٍ مُدَوٍّ… أَفِيقُوا أَيَُّها الْحَيَارَى.. لا تَجْعَلُوا طُيُورَ الْكَآبَةِ تُحَاصِرُكُمْ… لا تَسْتَسْلِمُوا لأَعْدَاءِ
الْحَيَاةِ وَأَعْدَاءِ أَنْفُسِهِمْ… حَتَّى وَإِنْ أَوْثَقُوكُمْ وَوَضَعُوكُمْ فِي غَيَاهِبِ الانْتِظَارِ وَمَرَاجِلِ الاحْتِضَارِ… لا
تَسْتَسْلِمُوا…. الأَشْجَارُ الْوَارِفَةُ تَظَلُّ صَامِدَةً.
سَأَبْكِي بَاسِمًا وَضَاحِكًا دُمُوعَ الْحُبِّ مِنَ الْمَآقِي… كُلََّما غَزَا قَلْبِي الْحَنِينُ… سَأَكْتُبُ اسْمِي عَالِيًا
كَالْكِبْرِيَاءِ.. صَامِدًا رَغْمَ السِِّنينَ…. سَأُسَافِرُ فِي دُرُوبِ الْحُبِّ الْجَمِيلِ…. سَأَشْدُو أُغْنِيَتِي وَقِيثَارَتِي
وَسَأَلْتَحِفُ فِي الْبَرْدِ بِرِدَاءِ نَسَائِمِ الصََّباحِ الْعَلِيلِ…. سَأَرْتَوِي مِنْ حَوْزَتِي… مِنْ مَكْتَبَتِي… مِنْ
صَوْمَعَتِي… فَالرِّحْلَةُ لَنْ تَطُولَ كَثِيرًا…
سَأَهْتِفُ مِنْ أَعْمَاقِ الْفُؤَادِ…. مِنْ أَعْمَاقِ قَلْبِي…. الْحَيَاةُ جَمِيلَةٌ… الْحَيَاةُ جَمِيلَةٌ رَغْمَ الصََّبِّار
وَالانْكِسَارِ…
بقلم
عماد الدين حسين
نوفمبر ٢٠١١