…
الرحلة….لا داعى للنداء الأخير …!!
بقلم الدكتور/ عماد الدين حسين – مستشار التميز المؤسسي والتدريب
من تابع ويتابع الثورة المصرية منذ إنطلاقتها وحتى كبوتها ، سوف يدرك أن هناك دروس عديدة أمدتها الرحلة وإستلهمتها النخبة الصامتة والصامدة . لا أدعى أننى أملك نواصى الحقيقة الغائبة والحجة الدامغة فى الشأن الثورى …. كما يجب أن أؤكد قبل أن أعرض أهم دروس الرحلة من وحى خطوبها ، أنه لم تتح لى الفرصة كى أكون راصدا مستداماً لما جرى ويجرى فى شرايين المد الثورى ومخاضه منذ الميلاد ، ولهذا ستكون تلك الدروس خلاصات ـ لراصد مُجتهد قد يشوبها القصور لأننى لا أدعى الالمام بكل الجذور ـ وإليكم بعض دروس الرحلة وهى قريبة فى طرحها الى إسقاط الفكر الادارى على الواقع الثورى المرير.
الدرس الأول: ظن أنصار الثورة ـ بكل طوائفهم تقريبا ـ أن التواجد الاعلامى على المنابر والتسابق الى الفضائيات أولى بالرعاية من التنسيق مع الفرقاء قبل الرفقاء وحشد الطاقات وبناء التفاهمات المشتركة مع الفصائل الثورية الحقيقية الأخرى ذات التوجهات المتباينة، ولهذا راح الجميع ـ الا من رحم ربى ـ يطوفون فى كعبة الاعلام ووقعوا فريسة فخ (الطائفية والعقائدية) و( التصنيفات) وتركوا (الوطن) فى الخلف وحيدا يصرخ بأعلى صوت (واغربتاه) أين حُماتى … وعلى الجانب الآخر من النهر ، كان ثوار (الثورة المضادة) يخططون فى صمت ، ويعيدون ترتيب الصفوف فى صمت ، سواءا بوسائل ميكيافيلية أو جيفارية ويوظفون كنوز المال المنهوب من العهد البائد مع تعاظم سخط المجتمع المدنى البسيط على الثورة والثوار … حتى إستيقظ أنصار الثورة ذات إصباح على واقع جديد ..وعلى طريقة ..من أنتم ؟!…وصدر البيان :من كان يحب (الثورة) ، فقد ولت ، ومن كان يحب (الثورة المضادة) فقد أتت وحاضرة بقوة رغم الجميع شاء من شاء وأبى من أبى….. وإن كان لعنوان لهذا الدرس ، فلن نجد أفضل من ( لا تظن أنك تملك كل شيىء بصوتك وجعجعتك فحسب ، لأن هناك من يطحنون بدون جعجعة!!) .
الدرس الثانى : فى فقه التفاوض الاجتماعى وأسفار التفاوض السياسى والتجارى هناك أدبيات يجب أن تُراعى والا كانت النهايات خسران مؤكد. والراصد المحايد لتجاوب (الاخوان) خاصة وباقى الفصائل من سلفيون وليبراليون وغيرهم مع آليات التفاوض فى إدارة الشأن المصرى لما بعد الثورة ، يدرك أنهم لم يكن لديهم الحد الأدنى من تفعيل التفاوض الفعال لصالحهم وإغتنام الفرص، فقد تخندقوا فى خندق ما يطلق عليه (All or None) لنحصل على كل شيىء أو لا شىء..خاصة الاخوان ….. وها هى الكرة تُعيد اللاعبين الى المربع الأول . نعم لا شيىء هو الأفضل من بعض الشيىء!! . بينما بقليل من الحنكة والحكمة كان يمكن أن تكون المكاسب فى المنال بإستخدام فقه البدائل ( Alternatives) أو فقه الفوز للجميع ( win-win) طالما كان الوطن حاضرا وليس غائبا فى طاولة التفاوض والتواصل اليومى وأجندة العمل الحزبى بمفهومه الضيق. ولعل مشهد (صباحى) و(أبو الفتوح) فى سياره واحدة وهم يلوحون لأنصارهم بعد نتيجة الجولة الأولى …جاء متأخرا عن الساحة كثيراً، ولك أن تدرك كيف كان لمسار الثورة يمكن أن أن يصل الى طريقه المنشود لو كانت تلك العربة تحمل أيضا مرشح (الأخوان) وآخرين من ممن ولدوا من رحم الثورة ….على أن تكون الصورة أشهر قليلة بل أسابيع للخلف..لكان المشهد مختلف تماما اليوم …. ولكن فى التفاوض ( ما لم تغتنم الغنائم فى وقتها ، تحولت الى خسائر غير قابلة للتعويض !!)
الدرس الثالث: لا يكفى أن تكون المطالب نبيلة ووطنية ومشروعة ودستورية ، لكن الأهم أن يصاحب نبل الغايات حسن الوسائل والسُبل ، لأن الغاية (النبيلة) إن سعيت إليها عبر وسيلة (هزيلة) تحول الأمر الى كارثة لا مفر منها. والدرس المستفاد هنا أن حُب الوطن كغاية لا يمكن أن نترجمها عبر التمترس (الحزبى) الضيق والرهان على الشرعية الثورية فى مقابل شرعية المجلس العسكرى رغم كونها شرعية مشوبة بالشوائب وعدم ترك مساحات مناسبة فى لوحة فنية رائعة تسمى ( لنتعاون فيما إتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضا فيما إختلفنا فيه) … . وأحسب أن المجلس العسكرى ومعه أدواته التنفيذية والقضائية أدارها بإتقان وإبداع غير مسبوق فى فنون الدوران الى الخلف بينما ترك اللاعبون منشغلون بما حباه بهم من غنائم (وهمية) وفيروسات قاتلة تفتت جسد الأمة لأنها محملة بملفات (التناحر) ومحاصصة العمل الوطنى لتكون (لبنان) (وبيروت) بديلان حاضران عن (مصر) و(القاهرة) فى المشهد بكل صراعاته وتناقضاته حتى بات القوم البسطاء المحبين لتراب أم الدنيا فى حيرة ..أهذا هو الوطن أم نحن فى كابوس يسمى بقايا الوطن….
الدرس الرابع: حين تغيب ثقافة (إدارة الأزمات) بفاعلية و إدارة ( النزاعات) بإحترافية وإدارة (الوقت) بجدية لينصهر الجميع فى شعارات التحرير ـ رغم أهميتها فى تقديرى ولكن ليس بالشعار وحده يتحقق الانتصار.. ـ فتكون المحصلة النهائية أننا منحنا للطرف الآخر ( العدائى للثورة) الفرصة كى يحول ( الوقت الذى يهدره الثوار) الى فرص ونجاحات غير مُعلنة ، والنزاع الذى تفشل النخب الثورية فى التوافق عليه ، يتحول الى كسور فى قصور الثورة التى لم يكتمل بناؤها ولم يُشيد أركانها، وهكذا ترى المشهد من طائرة هيليكوبتر أشبه بمن (يحرث فى النهر) فى جانب ، وعلى الجانب الآخر …ترى من يحفر بكل حرفية وهمة عالية لوضع أساس لكيان ـ رغم سوء المقصد ـ لكنه قوى الدعائم ليُخرجه الى العلن فى نسخة نهائية مكتملة المعالم ومُمنهجة فى التفكير ومُحبكة التخطيط والتنفيذ مع توفر البدائل فى كل مرحلة ، بينما ذلك كله غائبا من أجندة الآخر الثورى صاحب الفرص الضائعة والتسابق الاعلامى الهزيل.
لا شك أن الدروس عديدة ، وأزعم أن لدى كثيرون آخرون ممن أتيحت لهم الظروف أن يتابعوا عن كثب سيكون فى جعبتهم الكثير وبعمق يتجاوز رصدى ، لأننى كما أسلفت تنقصنى الكثير من جوانب المعادلات لبعد المسافات والتواجد الغيابى الحضورى .
من يدرى قد تكون هذه الدروس ـ رغم مرارة فصولها وما تحويه صفحاتها من خيبات ورغم قساوة المشهد الحالى ـ فقد تكون مسارات تنوير وبوصلة معرفية من دروس مستفادة لمن سيواصلوان المسيرة أو سيتنضموا حديثا الى الجموع وهم أكثر فهماً وعمقاً وإدراكا لأدبيات ( الأولويات ) و(البدائل ) فى الشأن الثورى ، خاصة وأن الفرقاء الثوريون عادوا بخفى حنين الى المربع الأول وإكتفوا من الذهاب بالاياب سواءا كان ذلك من جراء صنائع أيديهم أو أيادى أخرى أطلقوا عليها فى فترات المخاص العسير : الطرف الخفى !!.
دكتور/ عماد الدين حسين – 14 يونيو ـ أبوظبى
……